من حضرتك؟

أدخل إلى منتدى ترجمي أو آخر، فأجد أحدهم (أو إحداهن) يصرخ، بطريقة أو بأخرى، متسائلا كيف السبيل إلى العالم الترجمي للخريج الجديد، وكيف أن الشركات كذا وكذا، وكيف أن المترجمين كذا وكذا، وكلنا نرى ونسمع. والحقيقة، إن شعورا من الاستعجاب ينتابني وسؤالا يستحوذ على تفكيري موجها إلى "الصارخ": من حضرتك؟!!!

أي نعم، قدر كبير من الملامة دائما ما أطرحه على الشركات الترجمية ومديري المشاريع الترجمية الحرة، وغيرهم. لكن حديثي (هذه اللحظة) إلى الخريج الجديد والملامة الكبرى عليه الآن. فسؤالي بيني وبين نفسي: "من حضرتك؟" لا شك يسأله أيضا مدير شركة كذا، ومدير مشروع كذا، ومترجم في مركز كذا، إلخ. وهؤلاء جميعهم قد يشعرون بالرغبة في مساعدة هذا الخريج الجديد، لكنهم بالتأكيد قلما يقْدِمون على ذلك، لأن إجابة السؤال السابق مجهولة لديهم، وغالبا ما لا يوجد وقت للمغامرات الترجمية. فما الحل إذن؟

ترجم حتى أراك!

لقد كتبتَ مشاركة على الإنترنت، إذن فقد وصلتَ إليه!!! كيف إذن لا تستغل هذه النعمة التي ستحاسب عليها! لا تصرخ!!! هل ترى حقا أنك مترجم مجيد. قم إذن بترجمة فقرات ما وانشر ترجماتك؛ حتى يرى الناس قدراتك، حتى لو على سبيل التقييم. استمر على ذلك بين حين وآخر ونوّع حتى ترى ما يروق لك وما تجيده من تخصصات، وحتى تكتسب خبرة أكثر. شارك في الإجابة على استفسارات الزملاء في الأسئلة المختلفة على المواقع والمجموعات الترجمية. شارك في المناقشات المفيدة، ولا تقل لا أعرف. فلا شك لديك من الفائدة وإن قلتْ ما ليس لدى غيرك. تجنب الثرثرة التي لا داع لها والشكر الذي يهدف فقط إلى تكثير المشاركات. وأخيرا (وأولا أيضا)، افعل كل ذلك بنية الفائدة والإفادة، وباختصار: اخلص نيتك لله. فالنوايا الأخرى كلها مكشوفة (هذا لمعلوماتك!). إياك إياك أن تظن أن هذه الطريقة غير مفيدة. فبإمكاني أن أسرد لك قائمة بأناس أعرفهم يقينا دخلوا إلى سوق الترجمة من خلالها. وشخصيا أغلب المشاريع التي عملت بها على الشبكة كانت بترشيح أناس لا أعرفهم (أوْ لا أعرفهم شخصيا) قرؤوا ترجماتي على موقع أو آخر، رغم أن مشاركتي على الإنترنت، غالبا هي نوع من مركبات الإدمان الترجمي الافتراضي الذي أحاول فيه استحضار النية وتجديدها!

الترجمة وفك الخط!

تقول: حاولت وفشلت! كم حاولت؟ ولم فشلت؟ لا تقنعني أن رسالة لك ليس فيها سطر صحيح باللغة العربية ستلقى قبول مدير مشروعات ترجمية. لاحظ، أقول "رسالة". نعم رسائلك العادية، لابد أن تخلو من كل خطأ. وجل من لا يسهو، لكن فارقا بين شخص يبدو كأنه لا يجيد الكتابة، وآخر أخطأ سهوا. ماذا عن الترجمة، إذن؟ كانت مترجمة ممتازة، لم أتردد في ترشيحها عندما سألني مدير ومراجع بأحد المشاريع الترجمية الحرة، فقد جربها من قبل، ويعرف مستواها، ولابد أنه فقط يحتاج إلى تذكير. لكن إجابته كانت ببساطة شديدة: ليس لدي وقت لتصحيح أخطاء نحوية، وضبط علامات ترقيم!!!

أبـتـثـجـح: يعلم الله أنني أشعر كأنما أصِبت بصعقة كهربائية عندما أفاجأ بمترجم يقول: "العربي غير مهم"، ضبط الهمزات أمر غير جوهري"، "نتجاهل بعض الأمور نظرا لضيق الوقت"!!! هل تريد أن تصبح مترجما. إذن لتعرف أولا معنى كلمة ترجمة. الترجمة هي النقل، والنقل يعني أن لدينا مكانين نعرفهما يقينا وبإمكاننا الوصول إليهما على حد سواء. أما الاستقرار في مكان، فلا يسمى نقلا ولا ترجمة مطلقا. وعليه، يحتاج مدرس اللغة وكاتبها إلى أن يكون "ممتازا" في لغة واحدة. أما المترجم، فعليه أن يكون ممتازا في كلا اللغتين أو على الأقل "جيدا جدا". أما أن يكون ممتازا في لغة وضعيفا أو غير متمكن من الثانية، فهذا أخطأ الطريق إلى الترجمة، وعليه إما أن يحسن نفسه، أو أن يختصر الطريق، ويبحث عن عمل آخر!

اعتقاد شائع

يعتقد البعض أن المترجم هو الذي يجيد اللغة الأجنبية، والصحيح أن المترجم هو الذي يجيد لغته الأم وأضاف إلى ذلك دراسة للغة أجنبية فأتقنها، سواء أتقن لغته الأم بعد ذلك أو قبله. السر الذي لا يعرفه الكثيرون: إذا كنت تريد أن تصبح مترجما في مكان محترم ولعملاء محترمين، فأتقن العربية! فقد تتعامل مع عميل (عربي) يجيد اللغة الأجنبية خيرا منك، لكنه لا يجرؤ أن يترجم حرفا واحدا!!! ألا تصدقني؟ كم مرة قرأتَ إعلانا يشترط أن تكون اللغة التي يترجم إليها المترجم هي لغته الأم؟! الخبرة كفيلة بإثبات صحة ذلك. لكنني أقدم لك هذا السر على طبق من فضة، فلم لا تستغله؟!

المراجعون يراجعون!

نعم، إنهم يتقبلون وجود الأخطاء، لكن قدر هذه الأخطاء هو ما يمثل فارقا. الأمر الآخر، ليس كل مترجم ممتازٍ ممتازًا، فهناك من يترجمون ترجمة صحيحة من حيث المعلومة واللغة لكنهم مثلهم مثل الكثيرين. إن التميز سمة تتجلى دون أن تدرك، أي هي أحد الأشياء التي يراها الناس من حيث لا تراها.

اقرأ!

إن فاقد الشيء لا يعطيه، وباختصار يستحيل أن تترجم مثلا عن العمل التنظيمي في المؤسسات دون أن تقرأ عن ذلك. وبالمناسبة، قد لا يستطيع ذلك أيضا من له خبرة مؤسساتية طويلة؛ ذلك أن الترجمة هي شفرات دائمة التحديث. وهي تشبه في ذلك لغات البرمجة، فالذي يجيد لغة برمجية قديمة، لن يستطيع أن يكتب حرفا في لغة أحدث دون أن يقرأ عنها ويجرب مرارا وتكرارا. عندئذ، يمكن أن تساعده معرفته السابقة. وهذه هي الحال في أي مجال دائم التحديث. وهذا هو حال الترجمة التي هي علم يرتبط بكل العلوم نظرا لأننا نترجم كل العلوم! ومن ثم، فإن المتخصص في مجال ترجمي معين لابد أن يستمر في القراءة عنه. ولا أنسى أن أحد المراجعين الذي جعلهم الله سببا في إحدى النقلات الترجمية الهامة في حياتي، كان يَدْرِس دبلومة في كلية الخدمة الاجتماعية، وقد كانت مفاجأة لي إذ إنها ليست تخصصه الأكاديمي، بل كانت الدراسات الاجتماعية هي تخصصه الترجمي، وكان يحضر لعمل قاموس موسوعي متخصص في هذا المجال!

هل سوء الظن "في النفس" من حسن الفطن؟

الثقة بالنفس مطلوبة. لكنها أشبه ما تكون بقطعة الحلوى التي نتناولها بين حين وآخر. أما الاستمرار والإفراط في تناول السكريات فلا تحمد عقباه، كذلك الإفراط في الثقة يؤدي في النهاية إلى الإصابة بالغرور المزمن، وما يتبع ذلك من أعراض.

عملك المتقن هو خير تسويق لك. وفي كل اللغتين المصدر والهدف، عليك -ما أمكن- الرجوع إلى كل كلمة وتركيب في القواميس نطقا ومعنى، وفي المراجع خصوصا حال الترجمة المتخصصة، وإلى الزملاء ما توفروا، وعليك القراءة المستمرة في موضوع التخصص في غير وقت الترجمة، كما تقدم. لا أبالغ، لا أبالغ أبدا. "المترجم المجيد إنسان شكاك، محدود بوقت". وهذه التركيبة العجيبة، هي خلطة سرية لا يجيدها سوى المترجم!